15 ديسمبر 2013

أنا التي أكرهها




لستُ أدري إن كان من الصواب أن أعلن عن عيوبي صراحةً أم لا، أو بالأحرى نقاط ضعفي.



لطالما ضحكتُ من السؤال الساذج للبعض: قل لي ما هي نقطة ضعفك؟



وهل هناك من سيخبرك بنقطة ضعفه! هل هناك من سيغامر بأن يقدم لك على طبق من ذهب المدخل الذي يُمكن أن تستغله لإيذائه!



أنا سأفعل.



ربما لو قرأتُ ما يثير ضيقي في أسطر خفّ تأثيره في نفسي.



لأكون أكثر صدقًا، أنا على خلاف مع شخص لا يمكنني الانفصال عنه لو أردت. أنا على خلاف مع أنا. أنا تضايقني وتثير حنقي! لا تتعلم أبدًا. لا تكف عن تكرار نفس الأخطاء -والخطايا- بلا كلل أو ملل.



أذكر أن أول من شعر ببدايات إحدى نقاط ضعفي كان مدرس اللغة الفرنسية في مدرستي الثانوية. أخبرني يومًا أنني -رغم تميزي- أفتقد الثقة في نفسي. كلامه سبب لي الذعر، ورفضته بشدة! أنا لا أثق بنفسي؟! استحالة! أنا أدرك جيدًا نقاط قوتي وأقدر ذاتي بشكل كافي. كيف يراني بهذا الشكل؟!



الواقع يثبت لي كل يوم صحة رأي هذا المدرس... نعم، أنا فاقدة الثقة في نفسي رغم أنني أظهر واثقة إلى درجة الغرور أحيانًا. أنا أخشى الرفض. أتردد ألف مرة قبل أن أطلب شيئًا من زميل يخص العمل أو حتى خدمة شخصية. أتوقع الرفض باحتمال تسعة أعشار عن الموافقة. أفكر: لماذا عساه يلبي لي طلبي؟ من أنا حتى يوافق؟



المشكلة أن من يتعامل معي لفترة يشعر بتلك الاختلاجة التي تُغلّف أوامري في العمل لمن هم أدنى منّي، اختلاجاتي تخبرهم أنني غير واثقة من نفسي، وغير متأكدة من موافقتهم رغم أنهم لا يملكون الخيار! وهذا الإحساس يدفع بهم في أحوال كثيرة إلى رفض ما لا يُرفض!



لهذا السبب تحديدًا لا أفضل أن أطلب من أي شخص أي شئ. أحب أن أفعل كل شئ بنفسي. من أنا حتى يحسبون لي خاطر؟ أنا لا شئ.



لا أدري لماذا صرتُ هكذا على وجه الدقة. ربما كان السبب خيبات متلاحقة في الماضي ساهمت في تكوين هذا الجانب في شخصيتي. قد تكون معاملة أهلي الخشنة الجادة معي، فرغم أنني كنتُ متفوقة ومجتهدة و"مريحة"، كنتُ طفلة يحسد الأهالي أبي وأمي عليها، إلا أن مطالبي البسيطة -رغم ذلك- لم تكن أبدًا مجابة! وكنتُ أرى الأطفال من حولي يتلقون اهتمامًا لا يستحقونه من أهلهم بينما أنا أبكي بالأيام لأنال لعبة بسيطة رخيصة تافهة أعلم تمامًا أن بإمكان والدي أن يشتريها لي ورغم ذلك لا يفعل!



لم أتعوّد سماع المديح على شكلي، لا من أهلي ولا من الذكور طوال حياتي. فلماذا سأظن الآن أنني جميلة؟ لا تقولون لي الجمال ينبع من الداخل. كفى هراء! الفتاة التي تظهر واثقة من جمالها رغم تواضعه هي فتاة بثها أهلها منذ صغرها الثقة في شكلها. وثقتها تنعكس على تصرفاتها، فحتى لو خالج الشك محادثها للحظة في أنها جميلة؛ أفاقته ثقتها في نفسها وأعادته لليقين.



لطالما ظننتُ أنني قوية، لا آبه برأي الآخرين في. هراءٌ آخر.



أنا أهتم. أظهر أنني لا أهتم ولكني لستُ حقًا بتلك القوة. ونتيجة أنني أهتم فأنا أبالغ في تأويل تصرفات من حولي. أربط كل أفعالهم مهما كانت تافهة بأن لها علاقة بي، خصوصًا السلبية منها. يبدو أنني شخصية اضطهادية، تظن أن العالم كله يتآمر ضدها.



أنا حساسة لأقصى درجة. وأنا بالجامعة كنت أكثر جموحًا وانطلاقًا. مهما حدثت من مشادات في الطريق أو مع زملائي لم أكن أبالي، ولا أتوقف عند الأمر إلا لساعة ثم أنساه برمته، وقد كنتُ كذلك في أول عام لي في العمل. تحولتُ الآن إلى شخصية أكثر جُبنًا وتعقلًا. لا تقولوا لي إنها "الخبرة". لا، ما أشعر به مختلف تمامًا. فالحوادث الصغيرة التي أتعرض لها بشكل يومي بحكم طبيعة عملي أصبحت تفسد عليّ كل أنشطة حياتي الأخرى.



مشادة تافهة لا يتوقف عندها أحد، قد تتسبب في إلغائي لموعد مع صديقة! لماذا؟ لأن عقلي لا يستطيع الكف عن التفكير فيها، فأعلم أن يومي فسد كليةً!



أنا لم أكن هكذا من قبل! ما الذي حدث؟ لماذا أصبحت بتلك الهشاشة؟ ما كل هذا الضجيج الذي يملأ عقلي ويستهلك طاقتي في اللا شئ؟!



لأكون أكثر صراحة، لماذا أصبحت أفكاري تتمحور حولي بهذا الشكل المزري! ما هذا الفراغ! أغلب حديثي مع نفسي سلبي، وفي نفس الوقت فأنا أتحدث "عنّي"! أدور وأدور حول ذاتي، فتتضخم المشكلة. قد تظنون أنني "فاضية"، على العكس، يومي ممتلئ بشكل كامل تقريبًا، ورغم ذلك فرأسي لا تكف عن التفكير في "أنا".



هل أقسو على نفسي لو فكرت بهذه الطريقة، فأدخل في حلقة مفرغة لا فكاك منها؟



آمل في التصالح مع نفسي ولو لبرهة فقط حتى أستريح.


05 يونيو 2013

عن الأيام المقفولة من أولها !


مش عايزة أكتب كلام نسوي، بس الموضوع بقى بيضغط عليّ قوي. أنا نفسي مرة واحدة بس أخرج من غير ما يكون أول ما يشغل تفكيري هو السؤال اللولبي ده: "هلبس إيه النهارده؟! كذا؟ لأ آخر مرة لبسته واحد اتحرش بيّ، طب كذا؟ لأ ده لونه فاقع قوي وبيتريقوا عليّ في الشارع لما بلبسه!".

المصيبة إن لو شفتوا اللي أنا بقول عليه ضيق أو فاقع ده هتضحكوا! الضيق بالنسبة لي وااااااسع لأخريات، والفاقع ده ممكن يكون أحمر أو أصفر مثلًا! من حقي يا ناس ألبس براحتي والألوان اللي تعجبني! بجد كمية الطاقة المهدرة من جانبي في التفكير في اللبس بتقتلني! وماحدش يقول لي كبّري دماغك أو اعملي نفسك مش سامعة! أنا بتأثر بالكلام ده وممكن يقفل لي اليوم! طبيعتي كده! فبحاول ألصّم نفسي لحد ما أخلّص مشواري وأرجع من غير ما حد يضايقني، ولو استلزم الأمر إني ألبس شوال!

اللي هيقرأ الكلام ده هيفتكرني من نوعية البنات اللي تاخد الكلمتين وتسكت. إطلاقًا! أنا برُدّ على التحرش اللفظي بشكل شبه دائم، والجسدي بشكل دائم! ردودي عنيفة وفعالة، لا بتكسف ولا بخاف. آه باخد حقي، بس تأكدوا إن يومي بيتقفل قفلة مالهاش حل!

منتظر إيه بقى إنت من واحدة بتعاني من القهر ده في الشارع كل يوم؟ عاوزها تبقى لذيذة وفرفوشة وتلبس فساتين ولو بتشتغل تركّز في شغلها بكل عقلها؟! الراجل من دول يتمطّع قوي ويقول: "هي البنات اللي بتلبس فساتين انقرضت ولا إيه؟". فساتين إيه يا أبو فساتين! ده إحنا فاضل يطلع لنا شنب ومع ذلك مش سالمين!

النهارده كان يوم من أيامي المقفولة، بسبب عامل بناء "داخل مكان عملي اللي هو الجامعة، هه؟ واخدين بالكم؟ مش في الشارع!" قال لي "يا صباح المزز" بصوت عالي وأنا معدّية جنبه. قاعد هو على الأرض بيشتغل، وعمّال يرمي كلام على البنات عشان يسلّي وقته ويضحّك زمايله ويتأنعر بذكورته اللي ماحيلتوش غيرها!

بعد سجال عقيم بيني وبينه رفض يعتذر وقال لي أنا مش غلطان (كان فاضل يقول لي إنتِ إيه اللي نزّلك من بيتكوا أساسًا)، وبعد ما رفضت محايلة واعتذارات كل زمايله بما فيهم مقاول الأنفار، قلت له طالما رفضت الإعتراف بخطأك فإنت مش قاعد فيها ساعة كمان. بعد نص ساعة بالظبط مشّيته نهائيًا من الجامعة.

طب أنا كنت جوه سور الجامعة، وبالتالي عرفت أجيب حقي، زائد إني بشتغل هناك. أمال لو واحد في الشارع والبنت مش هتعرف تجيبه، أو جوه الجامعة بس حصلت في طالبة غلبانة ومستكينة وداخلة تمتحن ومتوترة، وواحد قال لها كلمة خارجة خليتها تتوتر وماتعرفش تجاوب، البنات دي تعمل إيه؟

أنا ألقي باللوم هنا على البنت، لإن اللي زي الرجل ده ماتجرأش كده إلا لإنه عارف كويس قوي إن البنت مش هترد! يا هتخاف يا هتتكسف. وعادةً لما البنت بيبقى لها رد فعل؛ الرجل بيتفاجئ ومش بيرد أو بيعمل مش سامع!  وللأسف البنت ماقدامهاش حل غير إنها تتصرف بنفسها، لإن الرجال في الشوارع بقوا متخاذلين جدًا، وأصلًا مفيش أي رادع أو حتى دعم من أي نوع البنت بتلاقيه متوفر في الشارع لما تتعرض لموقف من النوع ده. بالمناسبة، عربيات دوريات الشرطة بتمشي تعاكس البنات وتهدّي جنبهم عشان يركبوا!

نفسي أمسك ميكروفون وأمشي ألفّ في الشوارع وأقول للبنات: لما واحد يعملك أي حاجة تضايقك اقلعي اللي في رجلك واحدفيه بيه، يا إما تتفي عليه تفة كبيييييييرة قوي زي بتاعة تيتانك كده! غير كده ما تعيّطيش بقى وتشتكي!

08 يناير 2013

الهند، تدوينة (2): ماذا فعل بي السفر؟



لكلٍ منّا فكرة معينة عن شخصيته؛ إذا سألت أي شخص عن مميزاته -مثلًا- سيتملص من الإجابة خشية أن تتهمه بالغرور، لكن في داخل كل منّا تعريف لمميزاته وعيوبه بشكل واضح.
إذا أردت أن تختبر شخصيتك حقًا فلتقيم بمفردك، بعيدًا عن عائلتك وأصدقائك (comfort zone) لفترة طويلة نسبيًا، وإذا أردت أن تُخضع نفسك للامتحان الأصعب فلترحل إلى بلد أخرى، والأصعب أن يتكلم أهلها لغة مختلفة لكنّك تجيدها، والأصعب لو كنت غير مُلمّ بلغتهم!
قبل أن تفكّر أنك تريد العيش خارج مصر؛ تريد أن ترفع دخلك أو تتمنى استكمال تعليمك، فقط عليك أن تجرّب السفر والإقامة وحيدًا لفترة حتى تعلم إن كنت أهلًا لتلك التجربة. قد يكون أغلبنا سافر مرة أو أكثر لدولة أجنبية، ولفترات طويلة، لكنك في كل مرة كنت تسافر كـ"سائح" لا كـ "مقيم" وشتان بينهما.
أن أسافر لأول مرة لثلاثة أسابيع، وحدي، إلى بلد بعيدة جدًا عن مصر، أضطر أن أغيّر طائرتين للوصول إليها، وأهلها لا يعرفون العربية، وزملائي كذلك، فإنها كانت تجربة قاسية، وتحديّاتها عديدة.
في البداية كنت متحمسة جدًا، لكن كلما اقترب الميعاد كان شعوري بالرهبة يزداد. وكنت أشعر أن فكرتي عن شخصيتي تخضع للاختبار العسير الآن، وهي محل شك!
رغم أنني أُصَنَّف كشخصية مسئولة، غير مدللة، إلا أنني أحب أن أعرف تفاصيل الأشياء، فأكثرت من البحث عن المعلومات التي تخص الطيران، والإجراءات، والترانزيت، والوصول، ثم البلدة، زملائي، اللغة، الدراسة، العودة، ... لأنني -للأسف- من الشخصيات التي تُسمّى: Perfectionist وهي شخصية تسعى أن تؤدي الأشياء على أكمل وجه، وتتوتر كثيرًا إذا طُلب منها أداء شئ لا خبرة لها فيه، لهذا تفرط في الأسئلة حد أن يوشك عقلها على الانفجار!
أهم فكرة كنت أعتقدها عن نفسي أنني ذات شخصية قوية لا تبكي بسهولة. تحطمت تلك الفكرة في موقفين: الأول عندما غادَرَت الحافلة المطار متجهة إلى الطائرة، فاغرورقت عيناي بالدموع لكنني تماسكت، ثم بكيت عندما أقلعت الطائرة؛ أول طائرة أركبها في حياتي، وقد كنت أتمنى أن أركبها إلى جوار صديقة مثلًا، لكنني كنت وحدي، ووقتها شعرت بالبداية الحقيقة للتجربة: أنا الآن وحدي، لا مجال للتراجع.. فبكيت.
الموقف الثاني حدث نتيجة مشادة سخيفة مع أحد زملائي بسبب اختلافنا الثقافي، وشعرت فيها أنه يُهين بلدي، والعالم الذي قدمت منه، ولم أتمالك نفسي وقتها، فانزويت وبكيت بحرقة (تلك هي المرة الثانية التي أبكي فيها بسبب حبي لمصر بعدما بكيت كثيرًا يوم جمعة الغضب) وأدركت وقتها أننا في السفر نصبح أكثر حساسية تجاه أي حديث يتناول أوضاعنا السياسية أو الإجتماعية بشكل عام، ورغم أننا ندرك أننا لسنا بالعظمة التي نتوهمها، وأننا أسوأ حالًا من أغلب الدول التي نسافر إليها، إلا أن قلوبنا تأبى أن تصدق ما تؤمن به عقولنا، وتندفع هي لتدفع قبيح الكلام وتُخرِس العقل.
مشلكتي الكبرى هناك كانت اللغة. لقد كنت مُطالبة أن أتحدث الإنجليزية لثلاثة أسابيع متواصلة! لم أدرك صعوبة الأمر إلا عندما واجهته، فقد كانت تنتابني لحظات اختناق، أشعر أنني أود أن أصرخ فيمن أمامي حتى يصمت! رغم أنني أجيد الإنجليزية إلا أنني بالطبع أشعر بثقل لساني نتيجة عدم الممارسة، وكثيرًا ما كانت تهرب كلمات شديدة البساطة من عقلي تحت وقع المفاجأة، والأنكى أن العديد من زملائي كان لا يحلو لهم الحديث إلا عن أوضاع مصر السياسية، وهو حديث يطفح بالمصطلحات المتخصصة، ونتيجة عدم معرفتي بمعظمها كان كلامي يخرج مبتورًا، ومشوهًا، وقد يتسبب في إيصال معنى مغاير! ربما هوّن عليّ إلى حد ما انعقاد بطولة العالم للناشئين لتنس الطاولة في الهند، ووجود الفريق المصري المشارك في نفس مكان إقامتنا. كان الفريق يتكوّن من أربعة فتيان وأربع فتيات، تترواح أعمارهم بين الـ 16 و17 عام، ذوي شخصيات مرحة، وقد ظهروا كقارب إنقاذ من اكتئاب لغوي محقق! 
عضوات فريق الفتيات تنس طاولة ناشئين: دينا، عالية، يسرا، آلاء.. على الترتيب
التحدث بلغة غير لغتك، في البداية، يكون مُجهِد للغاية، لأنك تفكر بالعربية، ثم تترجم، ثم تفكر في القواعد النحوية الصحيحة والمفردات المناسبة، ثم تقول جملتك! كنت تقريبًا ألهث بعد مضي خمس دقائق من بداية أي حوار! أعتقد أنني تحسنت كثيرًا في الأسبوع الأخير من السفر، وصرت أفكر بالإنجليزية إذا كانت الجملة بسيطة.
ما كان يؤلمني حقًا هو عندما أتحدث مع أحد زملائي ذوي العقول المتفتحة؛ هؤلاء الذين لا يتوقفون عن منحك دروسًا وتعليمك أشياءًا طوال فترة حديثكم، وأجد لغتي لا تسعفني على مجاراته، وأشعر أنه لا يصبر حتى أكوّن الجملة لأقولها بشكل صحيح. هذا كان يحزنني بالفعل. وجعلني أعيد النظر في فكرة طالما راودتني؛ وهي إمكانية أن تحب شخصًا لا يتحدث لغتك الأم، مهما كانت درجة إجادتكما للغتكما المشتركة. تبقى راحتك وأنت تتحدث لغتك الأصلية قامة مثالية لا تضاهيها أخرى. وربما تضطر أن تدفع بشريكك هذا لتعلّم لغتك حتى تستريح، ولن تستريح!
الأمر يحتاج إعادة نظر بالفعل!
وقتما عدت من السفر كنت متأكدة أنني لا أريد السفر مرة أخرى، لكن مع مضي الوقت رجع شوقي للسفر أقوى من ذي قبل، وأتمنى أن لا أرسب في اختبارات الشخصية في المرة القادمة كما رسبت في تلك المرة!

03 يناير 2013

الهند: تدوينة (1)




لا أعرف، لا زلت غير قادرة على استيعاب التجربة بشكل كامل لأكتب عنها. وكل يوم أكتشف شيئًا جديدًا قد تغيّر في، أو لم ألحظه من قبل في البلد التي عشت فيها لثلاثة أسابيع!
أولًا لماذا الهند؟ 
 لأنني في المرحلة الأخيرة من الإعداد لتقديم رسالة الماجستير، وبدأت أفكر "ماذا بعد؟"، ولأنني أهتم بكل ما يخص الأعصاب، قمت بالتقديم فيما يشبه منحة قصيرة الأمد من أجل السفر للهند لدراسة مقدمة عن Computational Neuroscience وجزء من فرع Cognitive Neuroscience. وقُبِلت، وسافرت لأكون واحدة ضمن 30 طالب من خلفيات علمية مختلفة، والأهم، من 20 جنسية مختلفة!
ولأكن أمينة، فإن تجاربي مع زملائي فاقت تجربتي مع البلد ذاتها، لأنني كنت لا أغادر مكان إقامتنا إلا لأيام متفرقة، وأقضي أغلب وقتي معهم. سأذكر بعض ما لفت انتباهي في الهند في تلك التدوينة، وسأترك القادمة بأكملها للحديث عن زملائي.
 من المهم عندما أذكر "الهند" أن أحدد البلدة التي أقمت بها، لأن الهند قارة في حد ذاتها! مساحتها تزيد عن 3 أضعاف مساحة مصر، وبها 3 أجناس مختلفة، وعدة لغات، والعديد من الأديان (مش هقلبها حصة تاريخ ماحدش يقلق، ولو إن تاريخ الهند مثير جدًا، وبالأخص البلد اللي كنت فيها).
كانت إقامتي في الجنوب، في مقاطعة Andhra Pradesh (الهند 28 مقاطعة)، وتحديدًا في عاصمتها: هايدرآباد (آندرا 23 مدينة).
السكان في الجنوب داكني البشرة جدًا (مقارنةً بأهل الشمال)، ويُعتبروا السكان الأصليين، على عكس سكان الشمال الذين اختلطوا بالمستعمر الأبيض: بريطانيا. لغتهم الأولى هي "تيلوجو"، وبعضهم يتحدث "هندي"، وقطاع كبير منهم يتحدث الإنجليزية. في تلك المنطقة أكبر ديانتين هما الهندوسية، والإسلام.
ثانيًا: ما هو المميز في مدينة هايدرآباد؟
ولا حاجة!
بل ستتعجب لمدى التقارب بين هايدرآباد، ومحافظة كالقاهرة مثلا!
ربما ليس من المألوف أن تجد بقرة تمشي وحدها في شوارع القاهرة ، وقد يكون هذا هو فقط الفارق!
الشوارع تشبه شوارعنا (لكنها معكوسة لأن كرسي القيادة على اليمين)، عادةً ليست شديدة النظافة، مكتظة جدًا أغلب اليوم، الشحاذون يفوقون شحاذي مصر في الإصرار على مضايقتك وإفساد استمتاعك بالأماكن والتجول بحرية، الفقر شديد شديد، والتلوث مرعب! (شاهدت العديد من الناس يضعون كمامات في الشوارع). لديهم سوق محلي هناك يُعرف باسم "لاد بازار" يشبه سوق العتبة أو المنشية في الإسكندرية! وللإنصاف، لأول مرة أشعر عن قرب أننا أحسن حالًا من دول أخرى، وحتى عندما زرت أحد المراكز التجارية الضخمة وتجولت في بعض المحال التي لها فروع بمصر، فوجئت بالسعر المتدني للربع!
لكن البائعون عمومًا غير ملحّون، وظرفاء، والناس ودودة، لا أذكر أن أحدًا ضايقني بكلمة أو نظرة في شوارع هايدرآباد، رغم أنني أبدو غريبة! لقد رحمني الله لثلاثة أسابيع من سخافات تملئ أذني يوميًا هنا! ومما ساعد على عدم شعوري بالغربة أيضا هو عربات الريكشا (التوك توك)! :D
ثالثا: الأماكن التاريخية التي زرتها
هايدرآباد من المدن الحديثة في الهند (عمرها تقريبًا 500 عام فقط)، وأخفيت عن زملائي عدم انبهاري بالآثار التي زرناها، فقلعة جولكوندا مثلًا -على حداثتها- شديدة التهدّم، وتبدو كالمقابر! ورغم أنهم لا يعتنون بها (فالمكان قذر، ويعبق برائحة كريهة) إلا أنهم يُحدثون لها الكثير من الضجة، وزملائي بُهِروا بجمالها!! (لا أدري هل سيسقطون مغشيًا عليهم إذا شاهدوا آثار الأقصر وأسوان التي تحتفظ بشكلها وألوانها لعدة آلاف من السنين أم ماذا؟!)
لن أتحدث في وقائع تاريخية لكن قصة تأسيس مدينة هايدرآباد هي قصة حب :)


سلطان جولكوندا وقتها كان مسلم واسمه (محمد قطب شاه)، كان عمره 14 سنة ويقيم في قلعة جولكوندا، وكان يحب مغنية وراقصة هندوسية فقيرة اسمها (باجماتي). كان يعبر نهر "موسي" كل يوم ليشاهد رقصها ويسمع غناءها في قريتها على الضفة الأخرى. وذات يوم اشتد المطر وقويت العاصفة ولم يستطع السلطان أن يمنع نفسه من عبور النهر لمقابلة محبوبته والإطمئنان عليها لأنه علم أن العديد من البيوت سقطت جراء العاصفة، وبعد بحث مضن وجدها، وبعد هدوء العاصفة عادا إلى القلعة. عندما علم السلطان إبراهيم -أبيه- بتلك العلاقة حاول بشتى الطرق أن يصرف نظر ابنه عن تلك الفتاة الفقيرة، لكن بلا جدوى، وبعد صراعات عدة قبل بزواجهما وتتويج (باجماتي) ملكة على جولكوندا بعد إعلان إسلامها. وأطلق عليها زوجها السلطان اسم "هايدر محل"، ومن ثم أصبح اسم المدينة "هايدرآباد" على شرفها.
القصة الأخرى لراقصة ومغنية اسمها (تاراماتي)، سمع غناءها الملك عبد الله قطب شاه من قلعة جولكوندا، وقد كانت تغني على بعد كيلومترين منه في قصر ذي بناء معين يسمح للهواء بحمل الصوت لمسافات بعيدة، وقد أسمى القصر على اسمها كهدية: قصر تاراماتي.
بهايدرآباد قصص عديدة كالسابقتين، لهذا يسمونها (مدينة الحب).
أكثر مزارات هايدرآباد غرابة كان (معبد بيرلا). أعرف أن هناك من لا يزال يعبد تماثيل بهذا الكون لكنني شاهدت المناسك عن قرب لأول مرة، فكان علينا أن نخلع أحذيتنا لنصعد التل، وشاهدنا الهنود يسجدون لتماثيل بيضاء حجرية، وأسفلها يوجد مسحوق أصفر (وأحيانًا أحمر) يضعون فيه اصبعهم ويرسمون نقطة على جباههم (Bendi)، ويوجد بالمعبد عدة آلهة؛ لكلٍ تخصصه!



شوارع هايدرآباد







سوق "لاد بازار" في المدينة القديمة




أحد محال الإكسسوارات الهندية بـ "لاد بازار"




قلعة جولكوندا




قصر "شومحللا" - قصر النظام الحاكم القديم



  قصر "شومحللا" - قصر النظام الحاكم القديم 




قصر "شومحللا" - قصر النظام الحاكم القديم -صورة من شرفة بالقصر





رحلة مدرسية





المشهد من جزيرة ناجارجوناكوندا (نهر كريشنا) - جزيرة بوذية




 فتيات الجنوب





نهر كريشنا



 الغروب على نهر كريشنا الفاصل بين جزيرة ناجارجوناكوندا وهايدرآباد