08 يناير 2013

الهند، تدوينة (2): ماذا فعل بي السفر؟



لكلٍ منّا فكرة معينة عن شخصيته؛ إذا سألت أي شخص عن مميزاته -مثلًا- سيتملص من الإجابة خشية أن تتهمه بالغرور، لكن في داخل كل منّا تعريف لمميزاته وعيوبه بشكل واضح.
إذا أردت أن تختبر شخصيتك حقًا فلتقيم بمفردك، بعيدًا عن عائلتك وأصدقائك (comfort zone) لفترة طويلة نسبيًا، وإذا أردت أن تُخضع نفسك للامتحان الأصعب فلترحل إلى بلد أخرى، والأصعب أن يتكلم أهلها لغة مختلفة لكنّك تجيدها، والأصعب لو كنت غير مُلمّ بلغتهم!
قبل أن تفكّر أنك تريد العيش خارج مصر؛ تريد أن ترفع دخلك أو تتمنى استكمال تعليمك، فقط عليك أن تجرّب السفر والإقامة وحيدًا لفترة حتى تعلم إن كنت أهلًا لتلك التجربة. قد يكون أغلبنا سافر مرة أو أكثر لدولة أجنبية، ولفترات طويلة، لكنك في كل مرة كنت تسافر كـ"سائح" لا كـ "مقيم" وشتان بينهما.
أن أسافر لأول مرة لثلاثة أسابيع، وحدي، إلى بلد بعيدة جدًا عن مصر، أضطر أن أغيّر طائرتين للوصول إليها، وأهلها لا يعرفون العربية، وزملائي كذلك، فإنها كانت تجربة قاسية، وتحديّاتها عديدة.
في البداية كنت متحمسة جدًا، لكن كلما اقترب الميعاد كان شعوري بالرهبة يزداد. وكنت أشعر أن فكرتي عن شخصيتي تخضع للاختبار العسير الآن، وهي محل شك!
رغم أنني أُصَنَّف كشخصية مسئولة، غير مدللة، إلا أنني أحب أن أعرف تفاصيل الأشياء، فأكثرت من البحث عن المعلومات التي تخص الطيران، والإجراءات، والترانزيت، والوصول، ثم البلدة، زملائي، اللغة، الدراسة، العودة، ... لأنني -للأسف- من الشخصيات التي تُسمّى: Perfectionist وهي شخصية تسعى أن تؤدي الأشياء على أكمل وجه، وتتوتر كثيرًا إذا طُلب منها أداء شئ لا خبرة لها فيه، لهذا تفرط في الأسئلة حد أن يوشك عقلها على الانفجار!
أهم فكرة كنت أعتقدها عن نفسي أنني ذات شخصية قوية لا تبكي بسهولة. تحطمت تلك الفكرة في موقفين: الأول عندما غادَرَت الحافلة المطار متجهة إلى الطائرة، فاغرورقت عيناي بالدموع لكنني تماسكت، ثم بكيت عندما أقلعت الطائرة؛ أول طائرة أركبها في حياتي، وقد كنت أتمنى أن أركبها إلى جوار صديقة مثلًا، لكنني كنت وحدي، ووقتها شعرت بالبداية الحقيقة للتجربة: أنا الآن وحدي، لا مجال للتراجع.. فبكيت.
الموقف الثاني حدث نتيجة مشادة سخيفة مع أحد زملائي بسبب اختلافنا الثقافي، وشعرت فيها أنه يُهين بلدي، والعالم الذي قدمت منه، ولم أتمالك نفسي وقتها، فانزويت وبكيت بحرقة (تلك هي المرة الثانية التي أبكي فيها بسبب حبي لمصر بعدما بكيت كثيرًا يوم جمعة الغضب) وأدركت وقتها أننا في السفر نصبح أكثر حساسية تجاه أي حديث يتناول أوضاعنا السياسية أو الإجتماعية بشكل عام، ورغم أننا ندرك أننا لسنا بالعظمة التي نتوهمها، وأننا أسوأ حالًا من أغلب الدول التي نسافر إليها، إلا أن قلوبنا تأبى أن تصدق ما تؤمن به عقولنا، وتندفع هي لتدفع قبيح الكلام وتُخرِس العقل.
مشلكتي الكبرى هناك كانت اللغة. لقد كنت مُطالبة أن أتحدث الإنجليزية لثلاثة أسابيع متواصلة! لم أدرك صعوبة الأمر إلا عندما واجهته، فقد كانت تنتابني لحظات اختناق، أشعر أنني أود أن أصرخ فيمن أمامي حتى يصمت! رغم أنني أجيد الإنجليزية إلا أنني بالطبع أشعر بثقل لساني نتيجة عدم الممارسة، وكثيرًا ما كانت تهرب كلمات شديدة البساطة من عقلي تحت وقع المفاجأة، والأنكى أن العديد من زملائي كان لا يحلو لهم الحديث إلا عن أوضاع مصر السياسية، وهو حديث يطفح بالمصطلحات المتخصصة، ونتيجة عدم معرفتي بمعظمها كان كلامي يخرج مبتورًا، ومشوهًا، وقد يتسبب في إيصال معنى مغاير! ربما هوّن عليّ إلى حد ما انعقاد بطولة العالم للناشئين لتنس الطاولة في الهند، ووجود الفريق المصري المشارك في نفس مكان إقامتنا. كان الفريق يتكوّن من أربعة فتيان وأربع فتيات، تترواح أعمارهم بين الـ 16 و17 عام، ذوي شخصيات مرحة، وقد ظهروا كقارب إنقاذ من اكتئاب لغوي محقق! 
عضوات فريق الفتيات تنس طاولة ناشئين: دينا، عالية، يسرا، آلاء.. على الترتيب
التحدث بلغة غير لغتك، في البداية، يكون مُجهِد للغاية، لأنك تفكر بالعربية، ثم تترجم، ثم تفكر في القواعد النحوية الصحيحة والمفردات المناسبة، ثم تقول جملتك! كنت تقريبًا ألهث بعد مضي خمس دقائق من بداية أي حوار! أعتقد أنني تحسنت كثيرًا في الأسبوع الأخير من السفر، وصرت أفكر بالإنجليزية إذا كانت الجملة بسيطة.
ما كان يؤلمني حقًا هو عندما أتحدث مع أحد زملائي ذوي العقول المتفتحة؛ هؤلاء الذين لا يتوقفون عن منحك دروسًا وتعليمك أشياءًا طوال فترة حديثكم، وأجد لغتي لا تسعفني على مجاراته، وأشعر أنه لا يصبر حتى أكوّن الجملة لأقولها بشكل صحيح. هذا كان يحزنني بالفعل. وجعلني أعيد النظر في فكرة طالما راودتني؛ وهي إمكانية أن تحب شخصًا لا يتحدث لغتك الأم، مهما كانت درجة إجادتكما للغتكما المشتركة. تبقى راحتك وأنت تتحدث لغتك الأصلية قامة مثالية لا تضاهيها أخرى. وربما تضطر أن تدفع بشريكك هذا لتعلّم لغتك حتى تستريح، ولن تستريح!
الأمر يحتاج إعادة نظر بالفعل!
وقتما عدت من السفر كنت متأكدة أنني لا أريد السفر مرة أخرى، لكن مع مضي الوقت رجع شوقي للسفر أقوى من ذي قبل، وأتمنى أن لا أرسب في اختبارات الشخصية في المرة القادمة كما رسبت في تلك المرة!

0 التعليقات:

إرسال تعليق