دقت الساعة السادسة ..
استيقظت - بالأحرى لم أنم - من نومي لآخذ لحظات استجمع فيها أفكاري و أتذكر السبب القوي الذي دفعني لضبط منبهي على تلك الساعة المبكرة !
يا ربي كيف نسيت ! إني أنتظر هذا اليوم منذ شهر بفارغ الصبر ، أو لنقل أعيش في تمنيه العام كله ، فاليوم هو ميعاد الرحلة :)
مجرد تذكري للفكرة صباحا جعلني أقفز ملهوفة من سريري ، كنت ألهث في حجرات البيت فرحة ، أجمع حقيبة من هنا ، وأخرى من هناك .. تلك الحقائب التي كنت أعدّها منذ ما يزيد عن أسبوع !
ارتديت ملابسي على عجل وكأنني تأخرت بالرغم من أنه كان لا يزال أمامي ما يقرب من ثلاث ساعات على موعد القطار ، ودّعت أمي وأبي سريعا - فأنا أكره لحظات الوداع قبل السفر - و توجهت إلى المحطة ..
استقبلني زملائي بحرارة عند رصيف القطار ، كنا مجموعة من الشباب و الفتيات بلا هموم أو مشاكل حقيقية ، لا نزال خضر العود ، ملأى بالعفوية و النشاط ..
عندما كنت أصغر ، كنت أفضل المقاعد القريبة من أكثر الناس صخبا في الرحلة ، أصفق و أغني معهم ، ولكني تغيرت بعدها و أصبحت أفضل المقاعد الهادئة لأقتل الوقت فيها بالقراءة أو بالثرثرة مع إحدى صديقاتي ..
يومها تخيرت أبعد المقاعد عن الضجيج ، وجلست أتأمل الطريق البديع ، كانت لا تزال الشمس بكرا و السماء صافية ، والهواء محمل برائحة المزروعات التي ترتبط عندي بالأسفار ..
لا أعلم كم مكثت في هذا الوضع شاردة في أفكاري ، وفي الخلفية أسمع ضجيج زملائي المهرجين الذي التحم مع باقي الأصوات في خلفية المشهد ليكف عن ازعاجي ، ولكن فجأة انتبهت لتوقف الغناء و سمعت شجارا .. التفت لأجد زميل لا أعرفه محتدا على إحدى صديقاتي ، انزعجت بشدة لما يحدث ! لقد أتينا جميعا لنصفي أذهاننا لا لنتعارك ! كنت عندهما في قفزتين ، تدخلت محاولة أن أفهم الموضوع ، وبالطبع ألقى كل طرف باللوم على الآخر ، تظاهرت بالإستماع لكليهما ، هدأت من غضب صديقتي وغمزت لها أن تصمت ، ثم طلبت من زميلنا هذا أن يترك المكان كله و يجلس بالأمام حتى يهدأ ...
لاحظت توتره و ارتعاش يديه و احمرار وجهه ، حاولت أن أفهم الموضوع منه مرة أخرى بهدوء ولكني ذُهلت لتفاهة السبب الذي تعاركا من أجله ! استمعت باهتمام حقيقي دون تعليق ، وانتظرت حتى أفرغ كل ما في جوفه من حنق ، وهدأ نسبيا .. حوّلت وجهة الحديث تماما لأشياء أخرى ولم أتطوع لإبداء رأيي في الموضوع برمته ، بعد فترة كان قد هدأ تماما ، فسألني عن رأيي في الموضوع ، وأنه يشعر أنه بالغ قليلا في ردة فعله ، شعرت أنه بالأصل إنسانا مهذبا ولكن ما جعله ينفجر هكذا هو بالتأكيد شيئا آخر لا أعلمه ، وكان ظني هذا في محله ..
جلسنا نتكلم ما يقرب من ثلاث ساعات بلا انقطاع ! كيف لم أره من قبل فأنا - على الأقل - أعرف كل زملائي شكلا ! اكتشفت تشابهنا في الكثير من الأمور ، بل نكاد نتطابق فيم نحب وما نكره !
لم تتسن لنا الفرصة ثانية طوال الرحلة أن نتحدث ، ولكني قابلته مصادفة بعد العودة ، و كنا نتحاور في شتى الموضوعات لمدد طويلة في كل مرة أراه .. فرحت جدا به ، كان يفهمني جيدا و يشبهني في طريقة تفكيري ، شعرت بحق أن هذا هو "الصديق" بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ نبيلة ..
لم لا نكتفي أحيانا بما يمنحه الله لنا ؟ لماذا نصرّ على طلب المزيد الذي لو كان فيه الخير لما منعه الله عنّا ؟ لماذا نصرّ على افساد كل جميل بطمعنا في المزيد منه ؟ فسحر أي جمال يكمن في ندرته لا وفرته ..
قل لي ماذا كسبنا من مصارحتك لي بحبك ؟ لقد سبب تصريحك هذا شرخ في علاقتي بك لا يمكن مداواته ! إنها كلمة صغيرة حقا و لكنها تشبه الممحاة ، فقد محت كل ما قبلها تاركة الفرصة لكتابة سطورا جديدة .. ولكن ماذا لو لم يكن هناك سطورا لتكتب ؟ هل يمكن للسطور المزالة أن تكتب نفسها ثانية ؟ ..
تسبب تصريحك في فقداني لك كصديق .. لا تحاول أن تقنعني بأن أنسى ما قلت ونرجع أصدقاء فقط ، ما أسهل أن تتحول الصداقة لحب ولكن ما أصعب أن يرجع الحب لمرحلة الصداقة مجددا ..
أتعلم أني أفتقدك ؟ في كل مشكلة تمر بي أتخيل نفسي أرويها لك ، فتستمع لي بإيماءتك المحببة ، وابتسامتك العذبة ، و تفسر لي موقفي ، فقد كنت مولع مثلي بعلم النفس ..
أفتقد هذا الصديق النادر الوجود ، الطيب القلب .. ليتك لم تتسرع .. فقد قلتها دون تفكير، لقد كنت تشبهني حتى في اندفاعي في الكلام ..
أعلم أن تلك الرسالة لن تصلك يوما ، ولكني وددت بشدة أن أعتذر عما سببته لك من ألم وضيق ، قلوبنا ليست بأيدينا ، إنها بيد الله وحده ..
أتمنى لك من صميم قلبي حياة هانئة ، فأنت تستحقها بلا شك ..