قد
تبدو المحافظة الآفروآسيوية عادية لمن يزورها لأول مرة، لكنها لم تكن أبدًا عادية
بالنسبة لي وأنا أواظب على زيارتها كل عام، ولي فيها أقارب كثر، وذكريات أكثر، بل
كانت لي فيها قصة حب مراهقة صامتة، ولن تنسى أبدًا مدينة أحببتَ أحد أبنائها. هي
المدينة التي علّمني أبي في حديقتها الشهيرة (فريال) ركوب الدراجة وأنا في
العاشرة.
ورغم
أن آخر زياراتي لها كانت منذ سبع سنوات إلا أن قلبي كان يرقص نشوةً كلما وطأت
قدماي شارعًا وتذكرته، ليس هو فقط بل كل ذكرياتي فيه.. بحذافيرها!
بورسعيد
عمومًا مدينة صغيرة لكنها مميزة جدًا، ولها طابع خاص وروح خفاقة يمكن أن تلتقطها
سريعًا. شعب بورسعيد ذاق الأمرين طوال حياته، وعانى كل دقائق الحروب، لذا تجده
شعبًا مؤمنًا بالقضاء والقدر بشكل عجيب، فالأقدار قد جعلت مدينته الصغيرة حائط
الصد للضلع الغربي لسيناء، وميناؤها ذو دور حربي مهم، ورغم كل ذلك إلا أنك لن تجد
غير الطيبة الممزوجة بالشجن تطالعك من أعين أبناء بورسعيد.
لن
تجد لدى البورسعيدي خبث السكندريين وجرأتهم، ولا عنف القاهريين وتغليبهم للمصلحة،
ولا خشونة أهالي مطروح. البورسعيديون متجانسون بشكل غريب، فرغم تفاوت مستوياتهم
الاجتماعية إلا أنك لن تشعر بأية ضغينة بينهم، فالجميع يتكلمون بنفس الطريقة،
ويعيشون في بيوت متقاربة وفي نفس الأحياء السكنية. وبصفة عامة فشوارع بورسعيد
الجانبية ضيقة جدًا، والبيوت متعانقة في حميمية.
لطالما
أحببتُ وصف اللبنانيين لأنفسهم بأنهم "عَيّيشة"، أي يحبون الحياة والسهر
والضحك، كذلك ستجد البورسعيدي. لم أرَ طوال مكوثي هذه المرة مشاجرة واحدة في
الشارع! عبور الطريق كان من أسهل ما يُمكن، فالكل يقف لك حتى تمر، ملاكي أو أجرة
أو ميكروباص! لديهم نظام مختلف للدفع عند ركوب الميكروباص، تدفع بعد أن تصل، وهناك
صبر عجيب بين الناس على بعضهم البعض! لا تدافع، لا تزاحم، لا عجلة. كما أن أقصى ما
يُمكن أن يفعله الشاب هناك في محاولة لمعاكسة فتاة هو أن يغمز لها، لم أصادف أي
تحرش لفظي أو جسدي.
التاكسي في بورسعيد يوصّلك لأي مكان بثلاثة جنيهات. وأطول مسافة كانت من محل إقامتي لموقف دمياط،
دفعتُ لأجلها خمسة جنيهات! جميع عربات التاكسي "فيرنا" و"أكسنت".
في بورسعيد بإمكانك أن تمتلك سيارة فخمة بنصف سعرها مقارنةً به في أية محافظة
أخرى، لكن غير مسموح لك بقيادتها خارج بورسعيد لأكثر من شهر واحد، وتأخذ ترخيص اللوحة الصفراء: "منطقة حرة بورسعيد".
أكثر
ما أعشقه في بورسعيد هو معدية قناة السويس المجانية، وهي عَبّارة تنقل الأفراد والعربات
بين شطري المدينة الغربي (بورسعيد) والشرقي (بور فؤاد). يستغرق عبور القناة دقائق
فقط، أود لها ألا تنتهي. في النهار، وأنا صغيرة، كنت أتسابق مع أبي في حصر أعداد
قناديل البحر التي تبدو كالأكياس البيضاء المنتفخة تحت سطح الماء مباشرةً. وفي
الليل كنت أرتجف من البرد فأحتمي بأبي، وما أن نجتاز القناة إلى بر بور فؤاد حتى أنسى
البرد وأرغب في العبور مرة أخرى.
ورغم
جمال بورسعيد إلا أن الوحيد الذي قرر أن يُصوّر إحدى أغنياته فيها هو مطرب
مراهقتي؛ إيهاب توفيق. كانت الأغنية هي "مالهمش في الطيب"، وبغض النظر
عن ركاكة فكرة الكليب، وكمية "الدباديب" التي أثارت حنق حبيبته إلى أن
قذفته بها، ولها كل الحق، إلا أنني كلما شاهدت الأغنية استعدتُ كل ذكرياتي في محطة
قطار بورسعيد والمعدية.
لمن
لا يعرف الأغنية:
ليتني
أستطيع أن أنتقل للعيش بها، فقد شعرتُ بأنني أترك جزءًا من قلبي ورائي وأنا
أغادرها.
بور
فؤاد ظاهرة على الضفة الأخرى (بعدستي)
الشوارع
الجانبية الحميمية في بورسعيد (بعدستي)
من
داخل المعدية (منقولة)
ولا
يُمكن تجاهل استاد المذبحة (منقولة)